![](https://www.nafham.com/uploads/blog/25820/NobelPrize1.jpg)
في بعض الأحيان قد يَكون العلمُ مُعقدًا، لا نقصد بذلك النظريات العِلمية أو حتى المعادلات والمصطلحات وكل تلك الأمور المعقدة، بل نعني بذلك أنه في بعض الأحيان قد يكون خطيرًا.
لهذا ننقل لكم اليوم خبر أكثر جائزة نوبل مؤسفة مُنحت في التاريخ، حيث حصل الفيزيائي البرتغالي أنطونيو إغاز مونيز على جائزة نوبل في الطب لتَطويره عملية فصل الفص المخي الجبهي.
بدأت القصة سنة 1935 مع جون فولتون عالم الأعصاب، حيث قضى فولتون السنوات الخمس السابقة لتلك السنة في قطع أجزاء من أدمغة الشمبانزي ليبحث تأثير ذلك على سلوكها، وكان في الأغلب يعمل في قشرة المخ وهي الطبقة الخارجية من المخ.
وقد قسم فولتون أجزاء الدماغ إلى أربعة فصوص، منها: الفص الجبهي فيقع في مقدمة الدماغ، وهو موطن شخصياتنا، وهو مسؤول عن قدرتنا العليا على التفكير، وعن عواطفنا، وعن قدراتنا الحركية، وعن مدى انتباهنا.
إلا أن أغلب معرفة العلماء في هذا الوقت بالفص الجبهي تحصَّلوا عليها من خلال أبحاث قليلة، لذا حاول فولتون معرفة ذلك من خلال نتائج تجاربه.
واحدة من تلك التجارب كانت عندما أجرى عملية جراحية على قردين من الشمبانزي، أزال فيها القشرة الأمامية الحجاجية. وسرعان ما بدءا في إظهار سلوك غير ملائم كالتغوُّط على الأرض، والتعرض لنوبات غضب، الخروج عن التحكم، ولكن عندما أزال الفص الجبهي بأكلمه منهما، أصبحا أكثر انصياعًا واسترخاءً وهدوءًا.
قدَّم فولتون نتائجه في المؤتمر العالمي السنوي الثاني للعلوم العصبية في لندن سنة 1935، وكان من بين الحضور أنطونيو إغاز مونيز.
ولقد كان قبلًا مونيز يريد أن يكتشف طريقة غير باضِعة "لا تتطلب إدخال أدوات التشخيص في الجسم" لتشخيص الأورام في الدماغ.
فاخترع مفهومًا يُسمى تصوير الأوعية الدماغية، حيث يُحِقَن محلول يوديد الصوديوم في الشريان السباتي لرقبة المريض، ثم يسري المحلول إلى الدماغ.
وبما أن يوديد الصوديوم لا يمكن أن تخترقه أغلب أنواع الموجات الكهرومغناطيسية، فقد أدى إلى أن أصبحت الأوعية الدموية كامدة عند رؤيتها باستخدام الأشعة السينية، وهذا يسمح للأطباء باكتشاف المشكلات في الأوعية الدموية في المخ.
![](https://www.nafham.com/uploads/blog/25820/antnio-egas-moniz-406f43c3-de22-4fd2-a817-a1beafb3335-resize-750.jpeg)
وحينما رأى مونيز عرض فولتون لبحثه عن الشمبانزي، كان قد قضى قبلها سنين في العمل مع مرضى يعانون من اكتئاب وقلق و انفصام حاد.
فصاغ نظرية –ليست قائمة على أي بيانات تجريبية- بأن المرض العقلي كان سببه خلل وظيفي في التشابكات العصبية أو الروابط بين الخلايا الدماغية في الفص الجبهي. ولكن لم يجد مونيز أي طريقة ليعرف أيًا من التشابكات هو الذي به خلل وظيفي.
لذا اقترح عملية -قائمة على عمل فولتون- لـ تدمير الألياف العصبية التي تربط الفص الجبهي بالمهاد، وهو تركيب يقع في عمق الدماغ يستقبل وينقل الإشارات الحسية.
وبقطع تلك الرابطة، اعتقد مونيز أن بإمكانه قطع الفص الجبهي وتشابكاتِهِ المحطمة وفصلها عن بقية الدماغ، وبالتالي جَعْلها عديم الفائدة.
وبعد أربعة أشهر من مؤتمر لندن، جرب مونيز هذه العملية على إنسان للمرة الأولى، لم يؤدها بنفسه؛ بل أمر مساعده في المختبر بحفر ثقبين في جمجمة عجوز "ستون عامًا" تعاني من مرض الذهان، ثم حَقن الألياف العصبية الناقلة من الفص الجبهي باستخدام حقنتين من الكحول الصافي.
ونجحت العملية بمعنى أن أعراض الذهان توقفت، إلا أن العملية سلبتها شخصيتها، فقد أزالت العملية الأساس الذي يجعلها بشرًا.
سمَّى هذه العملية: "بَضع مقدم الفص الجبهي" وحيث كان أستاذ علم الأعصاب والتر فريمان أشد المؤيدين لعملية بَضع مقدم الفص الجبهي في أمريكا، وحَّد واتس وفريمان عملية بَضع مقدم الفص الجبهي وأعادا تسميتها بـ"الجراحة الفصيَّة" ونشرا كتابًا مشهورًا عنها سنة 1942م.
![](https://www.nafham.com/uploads/blog/25820/f1-large.jpg)
وأصبحت العملية أشبه بحل عام في مستشفيات الأمراض النفسية في أمريكا لأعراض تشمل التوهان، والأرق، والقلق، وأنواع الرهاب والهلوسة. وتوسَّعت العملية إلى صيغ مختلفة أيضًا.
ومع استمرار القيام بهذه العملية حتى ارتفع عدد المرضى، قيَّمت عالمة النفس ماري فرانسيس تسعين مريضًا خضعوا لجراحات فصيَّة فاكتشفت أن أغلبهم لم يعودوا يستطيعون التركيز، وفقدوا اهتمامهم بحياتهم. دُمِّر إبداعهم، توقف الموسيقيون عن عزف الموسيقى، وتوقف الكُتَّاب عن الكتابة.
فكما كان لهذه العملية جانب مضئ إلا أن الجانب المظلم منها كان أشد سوادًا، فلكي تحيا معافًا عليك أن تفقد كل إبداعك ومشاعرك وشعورك بما يدور حولك.
ومع ذلك فقد أوصلت هذه العملية طبيبها إلى نوبل، والتي تُعد إلى الآن أكثر جوائز نوبل حُزنًا، واليوم تُعتبر الجراحة الفصية جراحة خطيرة و غابرة. فهل يمكن أن يُطل علينا أحد مهووسي العلم مجددًا بنوبل مؤسفة مرة أخرى؟!
-----------
**المصدر**
------
إعداد: [سماء اسكندر](https://www.nafham.com/profile/379932)
إشراف: [محمد جودة](https://www.nafham.com/profile/331)
التعليقات