لقد تحدثنا في الجزء السابق عن ماهية «التصوف» وأسباب التسمية، ومختلف آراء العلماء عن «التصوف»، كما تطرقنا إلى أغراض «الشعر الصوفي»، والآن لِنُكمل الحديث في هذا الموضوع.
- **ثنائيات التجربة الشعرية الصوفية:**
- **بين الزهد و التصوف:**
- بيّن «الرسول صلى الله عليه وسلم» أن سبيل حُب الله وحُب الناس هو الزهد فقال ناصحًا لأحد أصحابه:
**«ازهد في الدنيا يُحبك الله، وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس»**.
- فالزهد في الدنيا هو:
**«خروج محبتها من القلب، وإن ملكها الإنسان بيده، والخلوة إلى التعبد»**
- فالزهد ظاهرة نفسية لها أثرها الكبير في الشعر العربي، **«فهو عدم الرغبة في ملذات الدنيا، وحنين الروح إلى مصدرها الأول، ولمعرفة الخالق عن طريق الزهد في الدنيا ومتاعها، والرغبة عن نعيمها وتفصيل نعيم الأخرة عليها»**
- يقول «عدي بن زيد العبادي»:
**فقد نصحت لأقوام و قلت لهم .... أنا النذير فلا يغرنكم أحد
لا تعبدون إلها غير خالقكم ..... فإن دعوكم فقولوا بيننا جدد
سبحان ذي العرش سبحانا نعوذ به ... و قيل قد سبح الجودي والجمد**
![](https://www.nafham.com/uploads/blog/25868/Emir_aek.JPG)
- **بين الصحو و السكر:**
- أهم مايتميز به الشعر الصوفي ذلك التماهي بين الصحو والسكر، حيث يكون غارقًا في خمر الذكرى، تُملأ بنشوة العشق الإلهي، متأجج العواطف، وخالص العاطفة، متدفق المشاعر، مشوبًا بنظرة فلسفية عميقة.
- فالشاعر المتصوف يفيق تارة ويغيب أخرى **«إذ أنه لا يدوم وجدانه بل يجد تارة ويفقد أخرى، ويكون مأسورًا تحت تصرف التلوين، ومناط تلوينه هو الوجود؛ الذي هو مثال الصحو والسالك لا يستغني عن السكر ما لم يخلص عن الصحو».**
- والصحو نقيض السُكْر ومصاحبه، فبعد كل سكر صحو، إذ يُعد تلك الرجعة الحسية بعد انغماس غيب الإحساس وأغرقه في سُكْرة العشق والتأمل، وأثمله من مُدام صبابة الوجد، ليأتي بعدها حضور، والمقصود بهذه الازدواجية المتكاملة هو
**«الإبحار في عالم العبادة والتفرغ لله وحده لا شريك له يُسبحونه أناء الليل وأطراف النهار، سُكْر من غير إذهاب عقل وصحو من غير حضور نفس وخلق وجود روحاني تَلِفُه أشعة نورانية نقية، ومُغلف في شرنقة الحب الإلهي.»**
- **الرمز في الشعر الصوفي:**
- يرى الصوفية أن العلوم الذوقية لم ترد مُجملة فلا تتبين لهم تفاصيل معانيها، فإذا وعوها وتصرفت أذهانهم فيها بالاعتبار والتأمل تُبين لهم ذلك، حيث أن النطق بالعبارات في مثل هذه العلوم يتم عن غير إرادة منهم، وهذا ما يجعل النص الشعري الصوفي رمزيًا شديد الخفاء.
- يقول القشيري: **«وأصحاب الحقائق يجري بحكم التصرف عليهم شيء لا علم لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يكشف لهم عن وجهه، فربما يجري على لسانهم شيء لا يجرون وجهه، ثم بعد فراغهم من النطق به، يظهر لقلوبهم برهان ما قالوه من شواهد العلم».**
- و لهذا نجد الشاعر الصوفي يعتمد أساليب لغوية مرمّزة سابحة في برازخ دلالية، تجعل من الخطاب الشعري لغزًا يستوجب فك رمزه للوصول إلى فهمه، ويبتعد كل البعد عن المعرفة المباشرة، وهذا ما يجعل الصوفي:
**«دائم التفكير في العثور على وسائط لغوية وفنية تُمكنه من استكناه ما خفي في الذات و الوجود في آن واحد، وقد أفضى البحث الدائم إلى اكتشاف الرمز، وهو وسيط أساسه الإيحاء بالتجربة.»**
- فالرمز يُوحد ما هو دنيوي وما هو غيبي لما يحمله من سمات، فاللغة العادية غير قادرة على الإلمام بالتجربة الصوفية الغامضة المEبهمة فالرمز يعطي انفتاحًا للدلالة، ويُشكل ظلالًا للمعنى الواحد، وقد وEظف الرمز الصوتي لما فيه من مخزون متحرك يتجاوز القوانين، ويُعبر عن خلجات عميقة تربط بين الداخل والخارج في الذات التي أوحت للشاعر بالرمز.
![](https://www.nafham.com/uploads/blog/25868/5.jpg)
- **نبذة عن الأمير عبد القادر:**
- هو الأمير «عبد القادر بن محي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار بن عبد القادر»، يتصل سنده بالإمام الحسين بن علي بن أبي طالب.
- أما كنيته :فهي أبو محمدو قد أطلق عليه عدة ألقاب من بينها: (أمير المؤمنين، ناصر الدين، الأمير، والجزائري، وابن الراشدي، وابن خلاد).
- ولد في الثالث والعشرين من رجب سنة اثنتين وعشرين ,مائتين وألف للهجرة (1122) الموافق لشهر أيار سنة سبعة وثمانمائة وألف للميلاد (1807) في القيطنة بسهل غريس قرب مدينة معسكر .
- كان الأمير ذو ثقافة واسعة في مختلف العلوم والآداب وذو شخصية فكرية منفتحة.
- تتلمذ على يد عدد من الشيوخ من بينهم: الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي (560-238) ومحمد الفاسي، وخالد النقشندي السهروردي، والشيخ محمود القادري.
- **مؤلفاته:**
- **الشعر:** الديوان.
- **النثر:**
**1 ــ** وشاح الكتائب وزينة الجيش المحمدي الغالب. **2 ــ** المقراض الحاد لقطع الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل والإلحاد. **3 ــ** ذكر العاقل وتنبيه الغافل. **4 ــ** المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد.
**5 ــ** تعليقات الأمير على جده عبد القادر في علم الكلام .
- رسائل متنوعة.
- **الأمير عبد القادر شاعر صوفي:**
- يرى الأمير أن التصوف هو: **«التوجه إلى الله بما يرضاه من حيث رضاه، فالأمير يرى أن التصوف هو: جهاد النفس في سبيل الله؛ أي لأجل معرفة الله وإدخال النفس تحت الاوامر الإلهية، والاطمئنان والإذعان لأحكام الربوبية، لا لشيء آخر، من غير سبيل الله».**
- فالأمير يرى أن التصوف هو أسمى درجات العبادة، مع تحرز المراقبة في السر والعلن، فهو إخلاص العبادة بعد تحقق الإسلام والإيمان فنزعته الإنسانية انتمائه إلى آل البيت، والتربية التي حظي بها في كنف الدين، وإيمانه الشديد بالقضاء والقدر،كلها عوامل ساهمت في بناء الشخصية القادرية الصوفية ونستشف ملامح التصوف في شخصية الأمير من خلال كتابه **«المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد».**
- إذ أن قصائد الأمير كانت بمثابة انعكاسات وإيحاءات لحياته فاتخذها كوسيلة لتوثيق حياته، نظرًا لصلته العميقة بها وقد قدم صورًا مُتكاملة إلى حد بعيد عن ثقافة عصره، وأبرز المظاهر الحياتية التي سادت في بيئته وخاصةً الروحية منها، وعليه فإن التجربة الصوفية عند الأمير والتي اختار اجتيازها في طريقة لا تعتمد على التلقين و التعليم و الاكتساب، ولكنها طريقة التحقيق الذوقي والممارسة القلبية والتصفية الوجدانية.
- زبدة القول أن «الشعر الصوفي» نمط من الأنماط الشعرية التي تعج بالجمالية الإيقاعية، والتميز الصوتي، والحس النغمي الراقي، حيث سما باللفظة إلى أعلى درجات البلاغة النطقية والروعة الكلامية التي تشد السامع وتُشبع حسه الذوقي وتُنتج تصاقبًا فريدًا من نوعه بين اللفظ ومعناه؛ أي بين الصورة السمعية والصورة الذهنية، فتأسر المتلقي وتُسْكره بكلمات النقاء، وتُثمله من خمرة التراكيب المتناسقة ضمن السياق الصوفي المنزه عن الشهوانيات البشرية والأنانية.
-----------
------------
**المصادر:**
1. عبد المنعم الحفني، معجم المصطلحات الصوفية.
2. سراج الدين محمد، الزهد في الشعر العربي.
3. محمد كعوان، تأويل وخطاب الرمز قراءة في الخطاب الشعري الصوفي العربي المعاصر.
4. محمد بن الأمير، تحفة الزائر في تاريخ الجزائر.
5. الأمير عبد القادر، المواقف.
------------
إعداد: [حيزية كروش](https://www.nafham.com/profile/625636)
مراجعة: [هند يونس](https://www.nafham.com/profile/561712)
إشراف: [سماء إبراهيم](https://www.nafham.com/profile/379932)
التعليقات